خطبة جمعة (مفرغة) بعنوان: {تأملات في سورة القارعة} – لفضيلة الشيخ د. عبدالله بن صلفيق الظفيري (حفظه الله)
 
♦ الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ “ [آل عمران-١٠٢]
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” [النساء-1].
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيم” [الأحزاب-٧٠]
 
أما بعد :
فإن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار.  
 
أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ،وبمراقبته في السر والعلن، فإن الله تعالى رقيبٌ على عباده سميعٌ بصير لا يخفى عليه شيء من أمر عباده مطلع على مافي نفوسهم. 
عباد الله: إن الإنسان في هذه الحياة يمر على مراحل والشيطان يؤزه في حياته لإيقاعه في خسارةٍ مطلقة ، ولكي يكون من أهل النار معه ، والمسلم واجبٌ عليه أن يحصّن نفسه من عدوه إبليس، الذي أ خرج الأبوين من الجنة، والله من رحمته وحكمته أنه أوجد العباد في هذه الدار دار اختبار وابتلاء دار عمل، والآخرة دار الجزاء ،
والله عز وجل ياعباد الله لم يترك عباده هملًا بل أنزل إليهم الكتاب باقٍ إلى قيام الساعة ليكون حجةً على العباد ، ونذيرًا وبشيرًا ، ويذكر الله تعالى فيه عباده بالمآل ، وما سيكون العباد عليه بعد الموت ، فالله -عز وجل- وصف كتابه بإنه شفاءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمةً للمؤمنين، “ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” [البقرة -٢].
هدايةً لعباده المتقين؛ لأن المتقين هم الذين يتذكرون إذا ذُكِّروا كما قال الله -عز وجل-: “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ” [ الذاريات -٥٥].
للإيمان أثرٌ في القلوب ، وللإسلام أثرٌ في القلوب والجوارح ؛ بأن يكون العبد مستلزمًا لأمرً الله منقادًا لشرع الله ، متذكرًا إذا ذُكِّر ، قلبه ليّن ، يخشع إذا ذكر بالله ويلين قلبه ، والقلوب تصدأ من كثرة المعاصي والغفلة عن ذكر الله ،وكثرة المغريات وكثرة ارتباط الناس بالماديات والشهوات ؛ تجعل القلب غافلًا عن ذكر الله ، غافلًا عن الآخرة،  غافلًا عن المآل، وما يحصل يوم القيامة من أهوال، فلهذا  فالله عز وجل ذكر عباده في سور من القرآن بما يحصل يوم القيامة ليلين قلب المسلم، ويحاسب نفسه ويرجع إلى الله ، ويرجع عن هذه الغفلة، ليعبد ربه وليثبت على الإسلام والإيمان حتى يلقى الله ؛لإن الشيطان يسعى سعيًا حثيثًا على مدار ساعات العمر أن يضل بني آدم، وأن يجعلهم في آخر حياتهم في ضلال، أو في خاتمةٍ سيئة، أو في انحرافٍ عن الدين أو  في ردةٍ عن الإسلام، لايغفل الشيطان عن بني آدم ؛ ولهذا ذكّر الله -عز وجل – عباده بسورةٍ قليلة الآيات عظيمة المعاني، فيها عظةٌ وعبرة ألا وهي سورة القارعة والمسلم يسمع كلام الله ويقرأ كتاب الله، بتدبر وإنصات؛ ليؤثر في قلبه وليعمل بما أمره الله في كتابه يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة
 
{بسم الله الرحمن الرحيم}
ٱلۡقَارِعَةُ (1) مَا ٱلۡقَارِعَةُ (2) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ (3) يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ (4) وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ ٱلۡمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ (7) وَأَمَّا مَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ (8) فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ (9) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا هِيَهۡ (10) نَارٌ حَامِيَةُۢ (11)
 
القارعة سماها الله القارعة: وهي اسمٌ من أسماء يوم القيامة ، حيث تقرع الأسماع والقلوب ، لإن أهوال يوم القيامة أهوالٌ عظيمة ، ذكر الله في كثيرٍ من القرآن ما يحصل يوم القيامة مما يقرع القلوب ويصخ الأسماع ، ولهذا سما الله يوم القيامة “القارعة” ، وسماها “الصاخة” ؛لإنها تصخ الأسماع وسمّاها “الساعة” وسمّاها “الحاقة” وسماها “الراجفة ” يوم ترجف الراجفة “ ، قال الله تعالى عن بعض أهوال يوم القيامة : “إِذَا ٱلسَّمَاۤءُ ٱنفَطَرَتۡ وَإِذَا ٱلۡكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتۡ *وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ فُجِّرَتۡ *وَإِذَا ٱلۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ”
 
النبي صلى الله عليه وسلم- ذكر شيئًا من أهوالها فقال “يجمع الله الأولين والآخرين عراةً حفاةً غرلًا، قالت عائشة :يارسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟! قال: ياعائشة إن الأمر أشدُّ من أن ينظر بعضهم إلى بعضٍ” .
الأمر مهول “إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)”
 
الساعة أهوالها عظيمة ، الساعة شأنها عظيم ، شأنها عظيم ، وأمرها خطير ، ولن ينجو يوم القيامة إلا من رحمه الله وأنجاه الله .
“القارعة مالقارعة وما أدراك مالقارعة “ أي : لبيان فخامة أمرها قال: “مالقارعة وماأدراك مالقارعة” تفخيمٌ لأمرها ، وتعظيمٌ لشأنها، “القارعة مالقارعة  وما أدراك مالقارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث” يتصادمون كالفراش كالجراد الذي يسير بعضه على بعض فإذا أشعلت النار لعدم إدراكها تتساقط في النار ، “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال” هذه الجبال العِظام الصمّاء “كالعهن المنفوش” العهن: هو الصوف اذا ضُرب يتفرق، ويتطاير لخفته ، كذلك هذه الجبال الصمّاء الصلبة ؛ يوم القيامة تصبح كالفراش المبثوث من شدة أمر الله “وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب” أرأيتم السحاب عندما ينزل مطره كيف يدفعه الريح ويطير ، يوم القيامة الجبال تكون كالسحاب الذي يسير “وتكون الجبال كالعهن المنفوش “ بعد ذلك توضع الموازين ، موازين أعمال العباد “فأما من ثقلت موازينه” بالإيمان والتوحيد والأعمال الصالحة وطاعة الله ورسوله “فهو في عيشةٍ راضية “ في جنات النعيم جعلني الله وإياكم منهم “وأما من خفت موازينه” وغلبت سيئاته حسناته إما بكفرٍ وردةٍ عن الإسلام أوفسقٍ ومعاصٍ “فأمه هاوية وما أدراك ماهي نارٌ حامية” 
“وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهي نارٌ حامية”
قيل : هي النار ، وقيل : “أمه هاوية “ أي : أم رأسه يهوى به في نار جهنم على أم رأسه .
هذا حال الآخرة ياعباد الله وأهوالها العظيمة، والإنسان مع كثرة هذه المغريات، وارتباطه بالدنيا وملاذها ينسى اليوم الآخر، وأهواله ومافيه من عظاتٍ وعبر ،وربنا رحيمٌ بعباده يذكر هذا لعباده حتى لا يأخذهم بغتة، وحتى لايكونوا مع الشيطان والكفار في نار جهنم، فاتقوا الله ياعباد الله وتدبروا القرآن لتنشرح به صدوركم وتطمئن به قلوبكم. 
 
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 
♦ الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
 
أما بعد :
عباد الله إن الإنسان في خسارةٍ مطلقةٍ يوم القيامة إلا من رحم الله ، أخبر الله في كتابه أن مطلق الإنسان كافرهم ومسلمهم ، في خسارةٍ مطلقة إلا من جمع اربعة أمور ينجوا بها بعد برحمة الله عز وجل ذكر الله في سورة العصر في هذه الصورة العظيمة التي قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله: “لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم” أي : كانت كافيةً أن تكون واعظةً زاجرةً لهم للتوبة النصوح والرجوع إلى الله
 
 {بسم الله الرحمن الرحيم} “وَٱلۡعَصۡرِ (1) إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بالصبر”
 
هذه الأمور الأربعة هي المنجية للعبد يوم القيامة ويكون من الفائزين لا من الخاسرين،
أولها: الإيمان وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره ، إيمانًا صادقًا ، مستيقنًا خالصًا لايشوبه شركٌ ولا نفاقٌ ولاشك ؛ إيمانٌ ناتجٌ عن يقين وصدق وإخلاص بالله وبسائر أركان الإيمان ، 

والثانية: “وعملوا الصالحات” والأعمال الصالحات هي التي فرضها الله على عباده أوشرعها على لسان نبيه، هي التي يعملها العبد خالصة لله متبعًا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم – لا ابتداع فيها ولا شركٌ فيها ولا شيئًا من مطامع الدنيا ، والله -عز وجل- يقول في الحديث القدسي : “مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”

الأعمال الصالحات فرضها ونفلها منجيٌ ً للعبد يوم القيامة الدين “إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات
 
(الثالثة) وتواصوا بالحق” أي: تناصحوا فيما بينهم بما أمرهم الله ورسوله ينصح الرجل أهله وينقذهم من النار، ويأمرهم وينهاهم ، وينصح جيرانه ، وسائر الناس يذكرهم بحق الله عليهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هذا هو التواصي وهو الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الدينَ النصيحةُ. قالوا : لمَن يا رسولَ اللهِ ؟ قال : للهِ ولكتابِه ولرسولِه ولأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم”.
هذا هو الدين، الدين قائم على النصيحة والتواصي بين أفراد الأمة ، بين الحاكم والمحكوم، بين الاب وبنيه، بين الأقارب، بين المسلمين وهذا علامة على صدق القلب، وطهارة القلب أن ينصح المسلم إخوانه المسلمين خاصتهم وعامتهم .
الرابعة: ” وتواصوا بالصبر” الصبر على طاعة الله، الصبر عن معاصي الله، الصبر على أقدار الله
الصبر على الأذى في سبيل الله ، الصبر شأنه عظيم من الدين التواصي بالصبر لإن الحياة قائمة على البلاء ويغلب على جنس الإنسان الظلم والحيف والجور، فما على المسلم الا الصبر فالصبر نتيجته الفلاح ونتيجته التأييد والنصر من الله “وإن النصر مع الصبر “
“إن الله مع الصابرين”
“يا أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين”
“وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة وأولٰئك هم المهتدون”
الصبر عند المرض، الصبر عند الفقر ، الصبر عند البلاء لأن الدنيا دار ابتلاء ولن يجد المؤمن الراحة والطمأنينة والسعادة إلا إذا وضع أول خطوة ٍ في جنات النعيم .
 
نسأل الله أن يسعدنا وإياكم بجنات النعيم ، وأن يرزقنا جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارحم والدينا ، اللهم ارحم والدينا كما ربونا صغارًا، اللهم اجعل مآلهم جنات النعيم، اللهم اجمعنا وإياهم في جنات النعيم يارب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، اللهم وفق ولاة أمرالمسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم أصلحهم وأصلح بطانتهم ياذا الجلال والإكرام وأبعدهم عن بطانة الشر والفساد والمنكر والرذيلة يارب العالمين، والحمد لله رب العالمين