¤ الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين يقلب الليل والنهار يولج الليل في النهار، ويولج النهار الليل ويخرج الحي من الميت ،ويخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويرزق من يشاء بغير حساب، وإن في اختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب، وأشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، وقدوةً الصالحين العابدين ،من اقتدى به واتبعه أفلح وفاز، ومن ترك أمره وسنته ذل وخسر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
 
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمة الإسلام والايمان، وسلوا ربكم الاهتداء إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولٰئك رفيقًا.  
 
عباد لله: إن في طول ليل الشتاء عبرةٌ للعالمين وموعظة للمؤمنين، وموسم عظيم من مواسم العابدين ؛ المسارعين الى جنة عرضها السموات والارض التي فيها ما لا عين ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ، هذه الليالي العظيمة الطويلة  فرصةٌ عظيمة لقيام الليل؛ الذي هو دأب الصالحين وشوق العابدين. 
 
عباد الله: إن قيام الليل وهو الصلاة مابين العشاء الى الفجر سواءًا كان أول الليل أو وسط الليل أو في آخر الليل وهو أفضله، هو شرف المؤمن قد أمر الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- لما أمره بالنبوة وإبلاغ الرسالة ؛ ليكون قيام الليل معينًا له على مشاق الحياة، وتحمل الدعوة، وتبليغ الرسالة،  فقد قال عز وجل لنبيه : “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا” [ المزمل ١-٦].
 
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمتثل أمر ربه ،فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه وتقول له أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- : “يارسول الله ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟!،فيقول -صلى الله عليه وسلم: “ياعائشة أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا “ .
وسُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الصلاة أفضل ؟ فقال: “طول القيام”، وفي لفظٍ : “طول القنوت” أي : في صلاة الليل، 
وقال -صلى الله عليه وسلم- : “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربةٌ إلى ربكم ومكفرةٌ للسيئات ومنهاةٌ عن الإثم” 
وقال -صلى الله عليه وسلم-“رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته ،فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء”  
 وقال -صلى الله عليه وسلم-: “أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وترٌ يحب الوتر”
ومن لم يصلي شيئًا من الليل فإنه يعاقب ببول الشيطان في أذنيه، فقد ذُكرَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا نام ليلةً حتى أصبح، فقال: “ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنيه”
 
أعاننا الله وإياكم على طاعته وعلى ذكره وشكره وحسن عبادته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 

¤ الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. 
أمًا بعد: عباد الله إن قيام الليل نعمةٌ عظيمة تنشرح بها الصدور ،وتطمئن به القلوب ،ويستجيب الله به الدعاء ،ويعطي الله العبد مسألته، ويغفر لمن استغفر، من وفق لقيام الليل فقد وفق لخيرٍ عظيم، ولهذا كان على المسلم الراجي رحمة ربه حريٌ به أن يبذل قصارى جهده في الاستيقاظ لقيام الليل، ولصلاة الليل، والاستغفار وقت الاسحار وللدعاء عند نزول الله عز وجل في الثلث الآخر من الليل حيث يقول: “من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه ؟من يستغفرني فأغفر له ؟”، حريٌ به أن يبذل الأسباب لهذا،  منها: 
– أن ينوي عند نومه أن يقوم من الليل، 
– ومن الأسباب أيضًا: أن ينام مبكرًا ولا يسهر
– ومن الأسباب أيضًا: أن ينام على طهارةٍ من حدثٍ أصغرٍ أو حدثٍ أكبر.
– ومن الأسباب أيضًا: أن يقرأ أذكار النوم عند نومه ليكون ذلك عونًا له في الاستيقاظ وطردًا لوسوسة الشيطان. 
وقد ذكر لنا نبينا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم- بعض الآداب عند النوم فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “طهروا هذه الأجساد ظهركم الله فإنه ليس من عبدٍ يبيت طاهرًا – أي: طاهرًا من حدث أكبر أو أصغر – إلا بات معه في شعاره ملك – أي بات معه في ثوبه – لا ينقلب ساعةً من الليل إلا قال: “اللهم اغفر لعبدك فإنه بان طاهرًا”
 
وقال -صلى الله عليه وسلم-“من بات في فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقةً عليه من ربه”
وقال أيضًا – صلى الله عليه وسلم- لرجلٍ : “إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم تضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت، فإن من من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به”
هذه بعض الآداب التي وجهها إلينا نبينا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم- أسبابٌ اكون معينةٌ للعبد على حياته تكون معينةً له على قيام الليل؛ ليتعرض لنفحات الله عند نزول الله كما جاء عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ينزل ربنا كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟، من يستغفرني فأغفر له ؟، من يسألني فأعطيه؟ “
 
الله أكبر ياعباد الله كم من إنسان محروم من هذا العطاء ، تخيلوا يا عباد لله لو أن مسؤولًا أو تاجرًا وعدكم في خارج المدينة وخيّم هناك، وقال من يأتيني قبل الفجر بنصف ساعةٍ فسأعطي كل واحدٍ ألف ريال هل يتغيب أحدٌ منا ؟ لن تجد أحدًا يتغيب عن هذا المال، فكيف وهو مخلوق ليس بيده شيء!؟ وكيف برب العالمين الذي بيده خزائن السماوات والأرض !؟ ينزل كل يوم فيقول: “من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه”
كم حاجات نحتاجها من رب العالمين؟!
أليس نحتاج إلى زرحمته وعطفه وغناه !؟
ألسنا محتاجين إلى عفوه وكرمه ؟!
ألسنا محتاجين إلى الله أن يغفر الله لنا ذنوبنا ويدخلنا الجنة، ويغنينا من فضله ويعافينا في حياتنا وفي أجسادنا،
لماذا لا نقبل على الله ؟!
والله يعرض هذا الأمر كل ليله فحريٌ بالمؤمن العاقل، الذي يرجوا رحمة الله ويرجوا عفو الله، أن يتعرض لنفحات الله، ويحرص على قيام الليل، ولايقدم الفاني ولايقدم السهر واللهو على هذا الفضل العظيم.
 
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا وإياكم على طاعته، اللهم أعنا على طاعتك يارب العالمين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ياذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وفي انفسنا وفي أهلينا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ياذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك الجنة وماقرب إليها من قَوْلٍ أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قَوْلٍ أو عمل، اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا، اللهم إرحم آباءنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، والحمد لله رب العالمين.