...

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين 

أما بعد:

فإن من القواعد الشرعية التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة ، أن الدين جاء لحفظ الضروريات الخمس: الدين والعرض ، والمال ، والعقل ، والنفس.

والأمن هو المهمين على حفظها ، فلا تتحقق هذه الضروريات إلا بتحقيق الأمن ، والأمن لا يتحقق إلا بوجود الإمامة ، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة وتحقيق لمقتضياتها ، من إكرام السلطان وعدم إهانته وعدم إثارة الشعوب  والغوغاء عليه ، ومن عدم الإنكار العلني ، مما يترتب على ذلك المصالح الكثيرة ودرء المفاسد العريضة ، وهذا أمر مفروغ منه ، وهو من الأمور التي تقررها الشريعة الغراء ، ومنهج السلف الأتقياء ، وكلام العلماء الحكماء.

وقد كتب في هذه الأيام الدكتور محمد على فركوس كتابةً في جواز الإنكار العلني على ولاة الأمر في حالات وضع لها ضوابط ، واستدل على كلامه ببعض المواقف من الصحابة والسلف ، وتنزيل تلكم الآثار على الإنكار العلني في زماننا في غير محله .

والرد عليه من وجوه :-

الوجه الأول : أن مفهوم الإنكار العلني في زماننا هذا قد توسع ، وأصبحت مفاسده ونتائجه سريعة الانتشار والاشتعال ، كالإنكار في منابر الجمعة ، ومنابر الميادين العامة وأجهزة التواصل الاجتماعي ، والكتابة في مواقع الانترنت ، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العريضة وإثارة الشعوب مما ينافي العقل والعلم والحلم

وقد سلك الدكتور فركوس هذا المسلك في بعض إنكاره على ولاة الأمر ، مما كتبه  ونشره علناً كما في هذا الرابط . https://bit.ly/2SPlIfO

الوجه الثاني : أن إنكار الأَّولين على الأمراء إنما كان في حضرتهم وأمامهم لا في غيبتهم ، وهذا من فقه السلف وإدراكهم للمصالح والمفاسد ، وإتباعهم لنصوص الوحي وقواعد الشرع .

الوجه الثالث : أن إنكارهم العلني كان بحضرة أهل فقه وعلم وإدراك للمصالح والمفاسد وليس أمام الرعاع والعوام والجهال ،الذين لا يدركون المآلات ، وهذا ما يحمل عليه إنكار أبي سعيد الخدري على مروان وهو أمير على المدينة ، وإنكار عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة ، وإنكار ابن عمر على الحجاج مع غلظته وشدته وقوة بأسه على الناس ، وإنكاره على عمرو بن سعيد وهو أمير على المدينة .

فالصحابة رضوان الله عليهم حققوا الأمر الشرعي في الإنكار ، وحملوا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإنكار العلني مطلقاً بجوازه إذا كان أمام الحاكم لا في غيبته .

الوجه الرابع : أن الحكم على الشئ فرع عن تصوره ، فالإنكار العلني في زماننا بوسائله المذكورة وما يترتب عليها ولا بد من المفاسد العريضة ، من شحن قلوب الجهال والرعاع ، وما ينتج منه من نزع هيبة السلطان ، أمر لا يفتي به أحد يعرف مقاصد الشريعة وقواعدها النبيلة  ، ويدرك المفاسد الكثيرة العريضة التي يترتب وجودها على الإنكار العلني بمفهومه المعروف عند أهل زماننا ، وطرائق أهله .

الوجه الخامس : نحن مأمورون بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على قول ورأي واجتهاد أي أحد . والرسول صلى الله  عليه وسلم نهى عن الإنكار العلني مطلقاً ، فقد ذكر الإمام الحافظ أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك في كتابه السنة : باب ما يجب على الرعية من النصح لولاتهم وذكر تحته أحد عشر حديثا ، ثم قال : باب كيف نصيحة الرعية للولاة، ثم أورد بسنده إلى شريح بن عبيد قال : قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أراد  أن ينصح لذي سلطان فلا يبد علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلو به ، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه منه له . حديث صحيح صحح إسناده الألباني بمجموع طرقه ، والحديث رواه أحمد في مسنده في قصة أوردها في (3/404،403) بسنده إلى شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال جلد عياض بن غنم صاحب دار حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ، ثم قال هشام لعياض : ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس،  فقال عياض بن غنم: يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت ، أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية ، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به ، فإن قبل منه فذاك ، وإلا كان قد أدى الذي عليه له ، وإنك يا هشام لأنت الجرئ إذ تجترئ على سلطان الله ، فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله في الأرض تبارك وتعالى

الوجه السادس :لقد قص الله علينا في كتابه منهج الأنبياء في الإنكار ، وبين لنا ضوابطه في منهجهم ، وذلك لنسلك مسلكهم في الإصلاح.

فهذا موسى وهارون عليهما السلام قد أمرهما الله بالإنكار على فرعون ونصحه ووعظه فقال عزوجل{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآياتي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِياذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىفَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فالله عزوجل أرشدهما وأمرهما ووعدهما :-

أولاً:  أمرهم بالذهاب لفرعون عنده والإنكار عليه ولم يأمرهما أن ينكرا عليه أمام جموع الناس ، كما وعد موسى السحرة بأن يجتمعوا  معهم يوم الزينة وقت الضحى والناس مجتمعون والجماهير ملتفة كما قال تعالى{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى }. وذلك للفرق بين الإنكار على الحاكم وبين والإنكار على المبطلين من سائر الناس .

وثانياً : أمرهما الله أن يسلكا معه مسلك الرفق واللين ، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح ،وأدرأ لشر المنصوح  وبطشه عنهما .

ثالثاً : وعدهم الله بأنه يكون معهم بنصره وتأييده لهما بعد ان يسلكا هذا المسلك فقال عزوجل {قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ قَالَ لَا تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ}

الوجه السابع : تحمل فتاوى العلماء الربانيين كالألباني وابن عثيمين رحمهما الله تعالى بجواز الإنكار العلني في حال إذا كان المنكر عند الحاكم كما حصل من الصحابة رضوان الله عليهم كما سلف ، وفي حال إذا كان ينكر على الحاكم  وحوله من العلماء والعقلاء ما يدركون شأن النصيحة ويعرفون كيف يوجهون هذا  الإنكار على الحاكم وأنه من باب النصيحة لا التشهير والفضيحة والإثارة ، ويعلمون قدر الحاكم ومكانته ، ويحمل على هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر –   أو أمير جائر– وهذا ما سار عليه السلف الصالح ، متبعين في ذلك توجيه نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد روى مسلم في صحيحه ( ح / 29809) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قيل له : ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟ فقال : أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم ؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه .

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فقال : إن كنت فاعلاً ولابد ففيما بينك وبينه .  رواه بن أبي شيبة في مصنفه (7/470) والبيهقي في شعب الإيمان 0( 10/73) .

فصل

{في بيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح أحوال المسلمين بالضوابط الشرعية وفهم سلف الأمة }

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شأن عظيم في الدين ، ومكانة علية في درء الشرور وإصلاح أوضاع المسلمين([1]) ، وله أهمية كبرى ومكانة عظمى ، لأن به حفظ أركان الإسلام  وأسسه وتعاليمه ومبانيه العظام ، وحمى كيانه وعزته ،وهو من فضائل هذه الأمة المحمدية ، ومن أسباب خيريتها على الأمم ، ولهذا اعتنى ديننا بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عناية تامة ، وحث عليه ورغب فيه ، وبين أن به صلاح الأمة وفلاحها ، قال تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وقال تعالى مبيناً وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة وجوباً كفائياً فقال تعالى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }

وقد حذر الله المؤمنين من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين أن ذلك معصيةً لله وعدوانّ على حدود الله ، وسببٌ للطرد والإبعاد عن رحمة الله فقال تعالى { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَكَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}

روى أبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ أَوَّلَ مَا دخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّه كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُم يَلْقَاهُ مِن الْغَدِ وَهُو عَلَى حالِهِ، فَلا يَمْنَعُه ذلِك أَنْ يكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ]:لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُم  أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ  وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[(المائدة 78-81)
ثُمَّ قَالَ: كَلَّا، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ رواه أَبُو داود والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ. هَذَا لفظ أَبي داود.

وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (والَّذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتنهَوُنَّ عن المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثُ عليكم عقاباً منه ثمَّ تدعونه فلا يستجيبُ لكم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن

فهذه النصوص قد دلت على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح أحوال المسلمين ، ويكون هذا بالضوابط الشرعية ، ومراعاة القواعد المرعية ، وبفهم الآثار السلفية والنظر في تحقيق المصالح ودرء المفاسد ،المبنية على الرفق والحكمة والعلم ، والرجوع إلى العلماء الربانيين المعاصرين ، لأن الله أمر بذلك ولأنهم يلمون بواقع الحال وما تؤول إليه الأمور قال تعالى { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً } سورة النساء  (83)

فصل

 [ في أثر المعاصي في تغير الأحوال والأوضاع ]

إن من المعلوم من سنة الله في عباده أن المعاصي لها أعظم السبب فيما يحل عليهم من المصائب وتغير الأحوال والأوضاع  قال تعالى { وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا۟ عَن كَثِيرٍ }وقال تعالى { أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ }وقال تعالى { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }وقال تعالى { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِىٓ أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَٰلِمُونَ }وقال تعالى { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وقال تعالى { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا۟ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ }وقال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى كما في الفتاوى (14/424) ( والقرآن بَيَّن في غير موضع أن الله لم يهلك أحداً ولم يعذبه إلا بذنب ) ثم ذكر تلكم الآيات  .

وقد ذكر العجلوني في كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس(1/864) أثراً عن الحسن البصري فقال : روى الطبري عن الحسن البصري أنه سمع رجلاً يدعوا على الحجاج ، فقال لا تفعل، إنكم من أنفسكم أوتيتم ، إنما تخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير ، فقد روي أن أعمالكم عمالكم وكما تكونوا يولى عليكم

إن المجتمع إذا كان صالحاً موحداً مؤمناً يعمل الصالحات ويجتنب الشركيات والبدع والربا والمعاصي والمنكرات ، فإن الله يولي عليه من الولاة الصالحين ، لأن ذلك من الحياة الطيبة التي ينعم الله بها على عباده المتقين حيث يولي عليهم من يسوسهم بالشرع الحكيم ، وبالرفق والشفقة لتحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية والأخروية ،ويقيم فيهم حدود الله وفق الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ، وإن كان المجتمع فاسداً ، وغلبت عليهم المعاصي  وكثر فيهم الشرك والبدع والخبث فإن الله يسلط عليهم بذنوبهم ، من لا يخاف الله فيهم ولا يحكم فيهم شرع الله ويشق عليهم ويضيق عليهم ويتولى أمرهم الفاسقون والمترفون، وتقل فيهم الرحمة وتكثر فيهم الفواحش والمنكرات عقوبةً منه عزوجل وهو العزيز الحكيم  العدل الرحيم ، وهذه سنة الله في عباده .

قال تعالى {  مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً }وقال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

فجعل الله ظهور الدين ووجود الأمن من جميع نواحي الحياة مرتبطاً بتحقيق التوحيد والعمل الصالح ، وجعل نزول رحمته على عباده مرهوناً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباع سنته قال تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ }وقد أخبرنا الله عزوجل بما فعل بالأمم السابقة من العقوبات عليهم لما عصوا رسله ، ومن تدبر القرآن وجد ذلك .

إن الواجب على أهل العلم والدعاة إلى الله وطلبة العلم أن يسعوا لإصلاح العباد ، وتربيتهم على تحقيق التوحيد والسنة ، والعمل الصالح ، وعلى تجنب كل ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله ، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  ، كما قال تعالى  ﴿ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡم سُوۤء فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ﴾ [الرعد ١١]  

 قال سماحة الإمام عبدالعزيز ابن باز رحمه في الفتاوى [9/297]  [ الآية الكريمة آية عظيمة تدل على أن الله تبارك وتعالى بكمال عدله وكمال حكمته لا يُغير ما بقوم من خير إلى شر، ومن شر إلى خير، ومن رخاء إلى شدة، ومن شدة إلى رخاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيروا غير الله عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات جزاء وفاقا، قال سبحانه:ِ {وما ربك بظلام للعبيد } وقد يمهلهم سبحانه ويملي لهم ويستدرجهم لعلهم يرجعون ثم يؤخذون على غرة كما قال سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] يعني آيسون من كل خير، نعوذ بالله من عذاب الله ونقمته، وقد يؤجلون إلى يوم القيامة فيكون عذابهم أشد كما قال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42]. والمعنى أنهم يؤجلون ويمهلون إلى ما بعد الموت، فيكون ذلك أعظم في العقوبة وأشد نقمة.وقد يكونون في شر وبلاء ومعاصي ثم يتوبون إلى الله ويرجعون إليه ويندمون ويستقيمون على الطاعة؛ فيغير الله ما بهم من بؤس وفرقة ومن شدة وفقر إلى رخاء ونعمة واجتماع كلمة وصلاح حال بأسباب أعمالهم الطيبة وتوبتهم إلى الله، وقد جاء في الآية الأخرى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال: 53] فهذه الآية تبين لنا أنهم إذا كانوا في نعمة ورخاء وخير ثم غيروا بالمعاصي غير عليهم – ولا حول ولا قوة إلا بالله – وقد يمهلون كما تقدم، والعكس كذلك إذا كانوا في سوء ومعاص أو كفر وضلال ثم تابوا وندموا واستقاموا على طاعة الله غيَّر الله حالهم من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة، غير تفرقهم إلى اجتماع ووئام، وغير شدتهم إلى نعمة وعافية ورخاء، وغير حالهم من جدب وقحط وقلة مياه ونحو ذلك إلى إنزال الغيث ونبات الأرض وغير ذلك من أنواع الخير ] 

فصل

{ ما الواجب على المسلمين تجاه تغير الأحوال والأوضاع }

إن الواجب على المسلمين الرجوع إلى الله وتحقيق توحيده وطاعته وطاعة رسوله من عبادة الله وإتباع سنة نبيه عليه السلام وتحقيق التقوى ليهنئوا بالحياة الطيبة وليرفع الله عنهم سوء الأحوال والأوضاع .

وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على ذلك ، فالواجب على المسلمين  الآتي :-

أولاً : تحقيق التوحيد ، وإتباع السنة  ، ونبذ  الشرك والبدع

ثانياً : تحقيق التقوى في الأمور كلها { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ }

ثالثاً :التضرع إلى الله والتوبة النصوح قال تعالى { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ }

رابعاً : كثرة الاستعغار والإنابة إليه قال تعالى { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }

خامساً : الصبر على جور الولاة ، وقد أمر الله في كتابه ورسوله في سنته بالصبر ، وأن بالصبر يتحقق النصر والفلاح  وتغير الأحوال والأوضاع إلى ما فيه خير كما في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }

سادساَ : كثرة الدعاء وسؤال الله أن يصلح ولاة أمر المسلمين وأن يولي عليهم خيارهم وأن يصلح لهم البطانة ، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة ، وأن يبعدهم عن بطانة الشر والفساد والرذيلة ، وهذا داخل في النصيحة التي لهم على رعيتهم

سابعاً : النصيحة لولي الأمر بالسر والرفق والحلم والكتابة لهم بحق الله عليهم ، وأن الواجب عليهم أن يتقوا الله فيما ولوا عليه وفيما ابتلاهم الله  به من أداء الأمانة .

ثامناً : الدعوة إلى الله ، وأن يقوم أهل العلم بدورهم لإصلاح العباد وتذكيرهم بحق الله عليهم

هذا ونسأل الله بمنه وكرمه أن يصلح أحوال المسلمين ، وأن يولي عليهم خيارهم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وكتبه /

د. عبدالله بن صلفيق الظفيري

1/  ذي القعدة /1442
________________________________

( [1] )  وقد عده بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام ، لعظم منزلنه في الشريعة الغراء ، ولكن هذا القول فيه نظر ، فقد سئل سماحة ا الإمام الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله  كما في فناويه سؤال :- سمعت أن بعض العلماء عد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركناً من أركان الإسلام  ، فهل هذا صحيح ؟
الجواب :  نعم قال بذلك بعض أهل العلم، لكن لم يرد نص واضح في ذلك، وإنما هو من أعظم فرائض الإسلام.
وأركان الإسلام التي بينها رسول الله ﷺ خمسة، قال عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت متفق عليه.
هكذا بين النبي ﷺ أركان الإسلام ودعائمه، فلا تجوز الزيادة عليها إلا بدليل صحيح. لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من الدعائم، وفرض من الفروض، لكنه لا يقال: إنه ركن سادس، لعدم الدليل على ذلك.
كما أن الجهاد في سبيل الله دعامة من الدعائم.. وهكذا ترك المحارم التي حرمها الله على عباده دعامة من الدعائم لابد منها، ولا يقال: إنهما ركنان من أركان الإسلام لعدم الدليل على ذلك.
مع العلم بأنه يجب علينا أن نستقيم على كل ما أوجب الله، وأن ندع كل ما حرم الله.

 

Seraphinite AcceleratorBannerText_Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.