۞ الخطبة الأولى

الحمد لله الرؤوف الرحيم، اللطيف الكريم، واهب عباده النعم، الذي هو أرحم بهم من آباءهم وأمهاتهم، والصلاة والسلام على نبي الرحمة بعثه الله رحمةً العالمين و قال الله عنه: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” [التوبة -١٢٨].

وقال عن نفسه -صلى الله عليه وسلم -: “أنا النذير العريان” وذلك دلالةً على شدة شفقته ورحمته لإنقاذهم من الزيغ والضلال، ومن العذاب والنار وليبشرهم بجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للأبرار صلى الله عليه وعلى آله أصحابه الخيار وسلم تسليمًا كثيرا الى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله اتقوا الله حق التقوى، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعتصموا في دينكم بالعروة الوثقى؛ التي من تمسك بها نجا من الضلالة والشقوى، واعلموا عباد الله أن أساس صلاح العبد واستقامته على أمرالله ورسوله، وبعده عن المعاصي والمنكرات، وبعده عن الفساد والسيئات، وتركه لفرائض الله، أساس ذلك كله صلاح قلبه؛ فإن صلح قلبه صلح سائر جسده، وعمله، وخلقه ،وسلوكه، وآدابه، وإذا فسد قلبه فسدت سائر أعماله ،وحياته ، وأخلاقه ،وسلوكه ،وحياته كلها ؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-:”إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب

عباد الله لقد ذمّ الله من فسد قلبه وقسى، ومدح أصحاب القلوب السليمة الطاهرة قال الله تعالى: “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” [٧٤-البقرة].

وذمّ الله من لم ترق قلوبهم ولا تخشع عند الابتلاءات، ولا ترجع ولا تعود لربها عند المحن والمصائب وعند العظات والعبر، فقال تعالى: “فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا” أي: هلاّ لما جاءهم بأسنا أنابوا ولانت قلوبهم “ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ماكانوا يعملون” أي: هلا إذا ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا، “ولكن قست قلوبهم” أي: مارقّت ولاخشعت “وزين لهم الشيطان ماكانوا يعملون” أي: زين لهم الشيطان الشرك، والمعاصي، والفواحش؛ لإن الشيطان يزين عمل العاصي إذا علم منه فساد قلبه، وقال تعالى: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون” [الحديد-١٦].

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره : “نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد، بدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلاً، ونبذوا وراء ظهورهم وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المختلفة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله؛ فعند  ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظةً، ولا تلين قلوبهم بوعدٍ ولا وعيد، “وكثيرٌ منهم فاسقون” أي : في الأعمال؛  فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة .

فاتقوا الله ياعباد  الله ولا تهلكوا حياتكم وآخرتكم بفساد قلوبكم، وقسوتها واسعوا إلى إصلاح قلوبكم، وءامنوا بالله حق الإيمان واعبدوه واشكروه؛ “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ” [الأنفال-٢].

جعلني الله وإياكم من أهل الإيمان ومن ذوي القلوب السليمة .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ،ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ،أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

۞ الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد عباد الله إن لقسوة القلوب ومرضها آثارًا  كثيرةً، جسيمةً، خطيرةً على الإنسان والمجتمع، منها:

▫️أن قسوة القلب وضعفه يسبب لصاحبه ترك ما أمر به من علم وعمل، وينسى ما ذكّره الله به، وينسى ما تذكر في سابق عهده وفي حياته؛ لإن قلبه أصبح عليه غشاوة بسبب مرضه وفساده، قال الله تعالى: “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙوَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ” [المائدة-١٣]. ۚ

▫️ومن آثار قسوة القلوب وفسادها: زوال النعم، ونزول المصائب والنقم، والهلاك، والجوع ،والقحط وذهاب الأمن، وذهاب الخيرات؛ لإن هذه كلها مرتبطةٌ بصلاح القلب، وصلاح العمل والتقوى قال الله تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ” أي: ظهر الخراب والدمار، والقحط، والجوع، وقلة الأمن “بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون” [الروم-٤١].

وقال تعالى: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا”  أي: صلحت قلوبهم بالإيمان، وصلحت أعمالهم باتباع الرسل؛ “لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا” أي: بألسنتهم، وبقلوبهم، وبأفعالهم وبفعلهم للمعاصي والمنكرات والفواحش ؛ “فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون” [الأعراف-٩٦].

فاعتبروا بمن مضى ومن حولكم، اعتبروا بمن مضى ومن حولكم، وقال تعالى: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا” أي: هلا لما جاء بأسنا تضرعوا ورجعوا وأنابوا، “وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ” أي: من ملاذّ الدنيا وشهواتها، “حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ” أي: آيسون بسبب ما فعلته أيديهم، ذهبت عنهم الخيرات، وذهبت عنهم الطمأنينة والأمن؛ بما كسبت أيديهم، وبما قست قلوبهم فنسوا أمر الله والإيمان، وأقبلوا على الفواحش والمنكرات

*هذا وعيد الله، هذا وعيد الله ياعباد الله، فاتقوا الله *

▫️ومن آثار قسوة القلوب: أن هذه القلوب المريضة هي أسرع القلوب لتلقي  الشبهات والشهوات، وأصحابها بسبب مرض قلوبهم وقسوة قلوبهم أكثرهم جريًا وراء الفتن، ووقوعًا في فتن الشبهات والشهوات، وأكثرها وقوعًا بترك الدين ونسيان أمر الله، والردة عن الإسلام، والوقوع في الضلال، والتأثر بأصحاب الضلالات والشهوات، والداعون إلى المنكرات ،قال الله تعالى: “لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ” [٥٣-الحج].

وقال تعالى متوعدًا أصحاب القلوب المريضة التي مرضت بسبب المعاصي ومخالفة الرسول: “فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” [الزمر-٢٢].

فياعباد الله إذا عرفنا أن هذه آثار مرض القلوب وقسوتها ،كان لزامًا على كل مؤمن أن يسعى لإصلاح قلبه وإنابة قلبه إلى ربه؛

◽️ومن أسباب صلاح القلب :الدعاء ،والاستغفار، وكثرة ذكر الله، وكذلك تدبر القرآن وتلاوته آناء الليل وآناء النهار، كذلك كثرة السجود ،وكثرة قيام الليل، والتضرع بين يدي الله، والندم على ما مضى، ومحاسبة النفس، والمحافظة للصلوات حيث ينادى بهن، ومجالسة الصالحين، والابتعاد عن مجالس اللهو والغيبة والنميمة، وترك الحرام، وترك أكل الحرام، والتصدق ومراعاة الأيتام والفقراء؛ كل ذلك من أسباب لين القلب ورجوع القلب إلى الله وصلاحه.

▫️ومن أعظم ذلك أيضًا: أن يعرف المسلم ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ فإن المسلم إذا عرف ربه حق المعرفة وتفكر في آياته الكونية فإن هذا من أسباب رجوعه إلى الله .

▫️كذلك من أسباب صلاح القلب أن يعرف الإنسان مآله الآخروي كل إنسان ٍ سيموت ، وكل إنسان ستعرض له فتنة القبر فإما أن يكون في قبره منعمًا ، وإما أن يكون في قبره معذبًا، وكل ذلك بحسب قلبك ياعبد الله وبحسب إنابتك لربك، وبحسب صلاحك “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ” [إبراهيم-٢٧].

تذكر خروجك من قبرك في أرض المحشر، ونزول الله للحساب يحاسب كل عبدٍ ليس بينه وبينه ترجمان، تذكر النار وأهوالها، تذكر الجنة ونعيمها، تذكر أيهم تكون رفيقًا له؟ أمع محمد والصحابة والصالحين؟  أم مع فرعون والكافرين في نار جهنم؟ أيهما تختار؟!

إذا تذكرت هذا ياعبد الله وتفكرت في هذا المآل لابد أن ترجع وتحاسب نفسك؛ أي طريق تختار؟ طريق أهل الجحيم أم طريق أهل النعيم؟!

نسأل الله أن يجعلني وإياكم من التوابين، اللهم اجعلنا من التوابين، اللهم اجعلنا من التوابين، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يارب العالمين، اللهم اجعلنا من  يتلوا القرآن آناء الليل وآناء النهار، اللهم اجعلنا من  يتلوا القرآن آناء الليل وآناء النهار، اللهم اجعل مآلنا جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولٰئك رفيقًا،  وارحم يارب والدينا كما ربونا صغارًا، اللهم ارحم والدينا كما ربونا صغارًا، اللهم ارحم من مات من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ياذا الجلال والإكرام، والحمد لله رب العالمين.

خطبة الجمعة (مفرغة) بعنوان: أحوال القلب بين الصلاح والفساد وأثر ذلك على حياة المسلم